صلاة أهل الأعذاربسم الله الرحمان الرحيم
أهل الأعذار هم المرضى والمسافرون والخائفون الذين لا
يتمكنون من أداء الصلاة على الصفة التي يؤديها غير المعذور
, فقد خفف الشارع عنهم , وطلب منهم أن يصلوا حسب استطاعتهم
, وهذا من يسر هذه الشريعة وسماحتها ,
فقد جاءت برفع الحرج :
قال الله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }الحج78
وقال تعالى :
{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ }البقرة185
وقال تعالى :
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }البقرة286
وقال تعالى :
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
التغابن16
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إذا أمرتكم بأمر ; فأتوا منه ما استطعتم)
. ..
إلى غير ذلك من النصوص التي تبين فضل الله على عباده
وتيسيره في تشريعه .
ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه , وهو ; كيف يصلي من قام
به عذر من مرض أو سفر أو خوف ؟
أولا : صلاة المريض
إن الصلاة لا تترك أبدا ; فالمريض يلزمه أن يؤدي الصلاة
قائما , وإن احتاج إلى الاعتماد على عصا ونحوه في قيامه ;
فلا بأس بذلك ; لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإن لم يستطع المريض القيام في الصلاة ; بأن عجز عنه أو شق
عليه أو خيف من قيامه زيادة مرض أو تأخر برء ; فإنه -
والحالة ما ذكر - يصلي قاعدا .
ولا يشترط لإباحة القعود في الصلاة تعذر القيام , ولا يكفي
لذلك أدنى مشقة , بل المعتبر المشقة الظاهرة .
وقد أجمع العلماء على أن من عجز عن القيام في الفريضة ;
صلاها قاعدا , ولا إعادة عليه , ولا ينقص ثوابه , وتكون
هيئة قعوده حسب ما يسهل عليه , لأن الشارع لم يطلب منه
قعدة خاصة ; فكيف قعد ; جاز .
فإن لم يستطع المريض الصلاة قاعدا , بأن شق عليه الجلوس
مشقة ظاهرة , أو عجز عنه , فإنه يصلي على جنبه , ويكون
وجهه إلى القبلة , والأفضل أن يكون على جنبه الأيمن , وإن
لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة , ولم يستطع التوجه إليها
بنفسه ; صلى على حسب حاله , إلى أي جهة تسهل عليه .
فإذا لم يقدر المريض أن يصلي على جنبه ; تعين عليه أن يصلي
على ظهره , وتكون رجلاه إلى القبلة مع الإمكان .
وإذا صلى المريض قاعدا , ولا يستطيع السجود على الأرض , أو
صلى على جنبه أو على ظهره كما سبق ; فإنه يومئ برأسه
للركوع والسجود , ويجعل الإيماء للسجود أخفض من الإيماء
للركوع . وإذا صلى المريض جالسا وهو يستطيع السجود على
الأرض ; وجب عليه ذلك , ولا يكفيه الإيماء .
والدليل على جواز صلاة المريض على هذه الكيفية المفصلة ما
أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث
عمران بن حصين رضي الله عنه ; قال : كانت بي بواسير ,
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال
: " صل قائما , فإن لم تستطع ; فصل قاعدا , فإن لم تستطع ;
فعلى جنبك زاد النسائي : " فإن لم تستطع , فمستلقيا[
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
]
وهنا يجب التنبيه على أن ما يفعله بعض المرضى ومن تجرى لهم
عمليات جراحية , فيتركون الصلاة بحجة أنهم لا يقدرون على
أداء الصلاة بصفة كاملة , أو لا يقدرون على الوضوء , أو
لأن ملابسهم نجسة , أو غير ذلك من الأعذار , وهذا خطأ كبير
; لأن المسلم لا يجوز له ترك الصلاة . إذا عجر عن بعض
شروطها أو أركانها وواجباتها , بل يصليها على حسب حاله ,
قال الله تعالى :
فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
التغابن16
وبعض المرضى يقول : إذا شفيت ; قضيت الصلوات التي تركتها ,
وهذا جهل منهم أو تساهل ; فالصلاة تصلى في وقتها حسب
الإمكان , ولا يجوز تأخيرها عن وقتها , فينبغي الانتباه
لهذا , والتنبيه عليه , ويجب أن يكون في المستشفيات توعية
دينية , وتفقد لأحوال المرضى من ناحية الصلاة وغيرها من
الواجبات الشرعية التي هم بحاجة إلى بيانها .
وما سبق بيانه هو في حق من ابتدأ الصلاة معذورا , واستمر
به العذر إلى الفراغ منها , وأما من ابتدأها وهو يقدر على
القيام , ثم طرأ عليه العجز عنه , أو ابتدأها وهو لا
يستطيع القيام , ثم قدر عليه في أثنائها , أو ابتدأها
قاعدا , ثم عجز عن القعود في أثنائها , أو ابتدأها على جنب
, ثم قدر على القعود ; فإنه في تلك الأحوال ينتقل إلى
الحالة المناسبة له شرعا , ويتمها عليها وجوبا ; لقوله
تعالى :
فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
التغابن16فينتقل
إلى القيام من قدر عليه , وينتقل إلى الجلوس من عجز عن
القيام في أثناء الصلاة . .. وهكذا .
وأن قدر على القيام والقعود , ولم يقدر على الركوع والسجود
, فإنه يومئ برأسه بالركوع قائما , ويومئ بالسجود قاعدا ;
ليحصل الفرق بين الإيماءين حسب الإمكان .
وللمريض أن يصلي مستلقيا مع قدرته على القيام إذا قال له طبيب مسلم ثقة : لا يمكن مداواتك إلا إذا صليت مستلقيا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا حين جحش شقه , وأم سلمة تركت السجود لرمد بها .
ومقام الصلاة في الإسلام . عظيم ; فيطلب من المسلم , بل
يحتم عليه أن يقيمها في حال الصحة وحال الأرض ; فلا تسقط
عن المريض , لكنه يصليها على حسب حاله ; فيجب على المسلم
أن يحافظ عليها كما أمره الله .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
ثانيا : صلاة الراكب
ومن أهل الأعذار الراكب إذا كان يتأذى بنزوله للصلاة على
الأرض بوحل أو مطر , أو يعجز عن الركوب وإذا نزل , أو يخشى
فوات رفقته إذا نزل , أو يخاف على نفسه إذا نزل من عدو أو
سبع , ففي هذه الأحوال يصلي على مركوبه ; من دابة وغيرها ,
ولا ينزل إلى الأرض ; لحديث يعلى بن مرة :[
أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه ,
وهو على راحلته , والسماء من فوقهم , والبلة من أسفل منهم
, فحضرت الصلاة , فأمر المؤذن فأذن وأقام , ثم تقدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على راحلته , فصلى بهم يومئ إيماء
; يجعل السجود أخفض من الركوع "]
رواه أحمد والترمذي .
ويجب على من يصلي الفريضة على مركوبه لعذر مما سبق أن
يستقبل القبلة إن استطاع ; لقوله تعالى :
ِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ
البقرة
144
ويجب عليه فعل ما يقدر عليه من ركوع وسجود وإيماء بهما
وطمأنينة ; لقوله تعالى
فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
التغابن16وما
لا يقدر عليه لا يكلف به . وإن لم يقدر على استقبال القبلة
; لم يجب عليه استقبالها , وصلى على حسب حاله , وكذلك راكب
الطائرة يصلي فيها بحسب استطاعته من قيام أو قعود وركوع
وسجود أو إيماء بهما ; بحسب استطاعته , مع استقبال القبلة
; لأنه ممكن .
ثالثا : صلاة المسافر
ومن أهل الأعذار المسافر , فيشرع له قصر الصلاة الرباعية
من أربع إلى ركعتين ; كمـا دل على ذلك الكتـاب والسنة
والإجمـاع , قال الله تعالى :
[وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ]
النساء101،
والنبي صلى الله عليـه وسلم لم يصل في السفر إلا قصرا ,
والقصر أفضل من الإتمام في قول جمهور العلمـاء , وفي "
الصحيحين " :(
فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ; فأقرت صلاة السفر , وزيد في
صلاة الحضر)
وقال(
ابن عمر : صلاة السفر ركعتان , تمام غير قصر ).
ويبدأ القصر بخروج المسافر من عامر بلده ; لأن الله أباح
القصر لمن ضرب في الأرض , وقبل خروجه من بلده لا يكون
ضاربا في الأرض ولا مسافرا , ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل , ولأن لفظ السفر معناه
الإسفار ; أي : الخروج إلى الصحراء , يقال : سفرت المرأة
عن وجهها : إذا كشفته , فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي
ينكشف فيها من بين المساكن ; لم يكن مسافرا .
ويقصر المسافر الصلاة , ولو كان يتكرر سفره , كصاحب البريد
وسيارة الأجرة ممن يتردد أكثر وقته في الطريق بين البلدان
.
ويجوز للمسافر الجمع بين الظهر والعصر , والجمع بين المغرب
والعشاء ; في وقت أحدهما ; فكل مسافر يجوز له القصر , فإنه
يجوز له الجمع , وهو رخصة عارضة , يفعله عند الحاجة , كما
إذا جد به السير ; لما روى معاذ رضي الله عنه ;(
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك : إذا ارتحل
قبل زيغ الشمس ; أخر الظهر حتى يجمعه إلى العصر ويصليهما
جميعا , وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس ; صلى الظهر والعصر
جميعا ثم سار , وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء
)رواه
أبو داود والترمذي . وإذا نزل المسافر في أثناء سفره
للراحة ; فالأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها قصرا بلا
جمع . ويباح الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
للمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة . قال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله : " وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة
, فإذا احتاجوا الجمع , جمعوا , والأحاديث كلها تدل على
أنه يجمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته , فيباح
الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة , وذلك
يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق
الأولى والأحرى " اه . وقال أيضا : " يجمع المرضى كما جاءت
بذلك السنة في جمع المستحاضة ; فإن النبي صلى الله عليه
وسلم أمرها بالجمع في حديثين , ويباح الجمع لمن يعجز عن
الطهارة لكل صلاة ; كمن به سلس بول , أو جرح لا يرقأ دمه ,
أو رعاف دائم ; قياسا على المستحاضة ; فقد قال عليه الصلاة
والسلام لحمنة حين استفتته في الاستحاضة :[
وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر , فتغتسلين , ثم
تصلين الظهر والعصر جمعا , ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء
, ثم تغتسلين , وتجمعين بين الصلاتين ; فافعلي]
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه
. ويباح الجمع بين المغرب والعشاء خاصة لحصول مطر يبل
الثياب , وتوجد معه مشقة ; لأنه عليه الصلاة والسلام جمع
بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة , وفعله أبو بكر وعمر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يجوز الجمع للوحل
الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك
, وإن لم يكن المطر نازلا في أصح قولي العلماء , وذلك أولى
من أن يصلوا في بيوتهم , بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت
بدعة مخالفة للسنة ; إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في
المساجد جماعة , وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق
المسلمين , والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في
البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع , كمالك
والشافعي وأحمد " انتهى .
ومن يباح له الجمع ; فالأفضل له أن يفعل الأرفق به من جمع
تأخير أو جمع تقديم , والأفضل بعرفة جمع التقديم بين الظهر
والعصر , وبمزدلفة الأفضل جمع التأخير بين المغرب والعشاء
, لفعله عليه الصلاة والسلام , وجمع التقديم بعرفة لأجل
اتصال الوقوف , وجمع التأخير بمزدلفة من أجل مواصلة السير
إليها .
وبالجملة , فالجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة سنة , وفي
غيرهما مباح يفعل عند الحاجة , وإذا لم تدع إليه حاجة ,
فالأفضل للمسافر أداء كل صلاة في وقتها ; فالنبي صلى الله
عليه وسلم لم يجمع في أيام الحج إلا بعرفة ومزدلفة , ولم
يجمع بمنى ; لأنه نازل , وإنما كان يجمع إذا جد به السير .
هذا ونسأل الله للجميع التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح
.
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق