روح الصلاة ولبها (1)
الحمد لله رب العالمين، جعل الخشوع في الصلاة سمةً من سمات المؤمنين، وطريقاً للوصول إلى مراتب المفلحين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وأشرف الخاضعين والخاشعين، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد بن عبدالله، وارض اللهم عن آله وأصحابه وأزواجه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: اتقوا الله رب العالمين، وكونوا بدينكم مستمسكين، وعلى عموده محافظين، وفيه خاشعين خاضعين، تسلكوا سبيل المفلحين.
عباد الله: إنه نتيجة لارتماء كثير من الناس في أحضان الدنيا، والتنافس في جمع حطامها، وانشغال القلوب والهمم بها، ونسيان الدار الحقيقية، والغفلة عن العمل لها؛ تناسى بعض الناس خالقهم ورازقهم؛ فلم يبالوا بحقيقة صلاتهم، ولم يكترثوا بعظيم حقها فضيعوها، وصدق فيهم قول الحق- تبارك وتعالى-: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]. وصنف آخر من الناس يؤدي الصلاة، ولكن مع الوقوع في الخلل، والاستمرار في الزلل؛ يصلون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية؛ لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، يصلون أشباحاً بلا أرواح، وقوالب بلا قلوب، وحركات بلا مشاعر وأحاسيس، فينفتل عن صلاته، ولم يعقل منها إلا قليلاً، بل لعل بعضهم لا يعقل منها شيئاً. ثم لا تسأل عن الأحوال، وسيء الأعمال بعد الصلاة: فحش في القول، وإساءة في الفعل، وإصرار على المعاصي.
وربما تساءل بعضهم: ألم يقل الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ فلم تنههم عن الفحشاء والمنكر، فنحن نؤدي الصلاة، ولكن لا أثر لها في حياتنا، ولا ثمرة لها في واقعنا، وتغيير أحوالنا، وتحسن مناهجنا وتصوراتنا، وصلاح سائر جوانب حياتنا؟!!. وهنا أقول: إن السبب في ذلك كله: هو إخلالنا بروح الصلاة ولبها، الخشوع فيها، فما مكانة الخشوع في الصلاة؟ وما معناه؟ وما الأسباب الجالبة له، والآثار المترتبة عليه؟ هذا ما سنتطرق إلى بعضه -بحول الله- بعد أن تفاقم الأمر، وعم التقصير في ذلك، حتى أصبح ظاهرة خطيرة تستحق الاهتمام والمعالجة على ضوء الكتاب والسنة.
إخوة التوحيد: لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم، ووصفهم بالخشوع له في أجل عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح؛ فقال جل وعلا: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]؛ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح". "وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه وخضوعه، وانكساره وحرقتُه؛ فإذا خشع القلبُ، تبعه خشوع جميع الجوارح؛ لأنها تابعة له"، وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة، فقال: "لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه"، روي ذلك عن حذيفة –رضي الله عنه- وسعيد بن المسيب -رحمه الله-. وعن ابن عباس-رضي الله عنه- في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 2]، قال: "خائفون ساكنون".
هذا هو قول سلف الأمة -رحمهم الله- الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الوقوف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع؛ فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل عندما يشتغلون بمناجاة الجبار جل جلاله، ويتوارى عن حسهم في تلك الحالة كل ما حولهم، فيتطهرُ وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة؛ وحينئذ تكون الصلاة راحة قلبية، وطمأنينة نفسية، وقرة عين حقيقية؛ كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- في الحديث عن أنس-رضي الله عنه-: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
وفي المسند أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قم يا بلال فأرحنا بالصلاة). هذا عبد الله بن مسلم بن يسار يحدث عن أبيه: أن أباه كان إذا صلى كأنه وتد، لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وكان البخاري يرحمه الله يصلي ذات ليلة فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى الصلاة قال انظروا ايش آذاني؟! وقيل لعامر بن عبد قيس: أتحدث نفسك بالصلاة؟ قال أحدثها بالوقوف بين يدي الله ومنصرفي. الله أكبر! إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة؛ لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء، وأن المصلي حينما يكبر ويرفع يديه إنما يعظم الله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذل بين يدي مولاه، وقد سئل الإمام أحمد-رحمه الله- عن المراد بذلك؟ فقال: "هو ذل بين يدي عزيز"، وإذا ركع فهو: إقرار بعظمة الله، وإذا سجد فهو: تواضع أمام علو الله تبارك وتعالى. وهكذا يكون المسلم في صلاته يوثق الصلاة بالله، ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد؛ أخرج الإمام مسلم وغيره عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوؤها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفار لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة؛ وذلك الدهر كله).
أيها المصلون: إن المصلي حقاً هو الذي يقيم الصلاة كاملة الفرائض والأركان، مستوفية الشروط والواجبات والآداب؛ يستغرق فيها القلب، ويتفاعل من خلاله الوجدان، ويحافظ عليها محافظة تامة قدر الطاقة، يبعثه على ذلك قلب يقظ، وشعور صادق، وضمير حيٌّ، فيتصرف بكليته إلى الصلاة؛ لأن الخشوع فيها إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها. ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد؛ فالذي يجعل الصلاة مرتعاً للتفكير في أمور دنياه، وحلاً للهواجس في مشاغله، يخشى أن ترد عليه صلاته، فقد ورد: أن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فلا يتم ركوعها، ولا سجودها ولا خشوعه، كما ورد أن صلاة من هذه حاله: "تلف كما يلف الثوب الخَلَقُ؛ فيضرب لها وجه صاحبها" عياذا بالله. روى الترمذي وغيره أن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "أول علم يرفع من الناس: الخشوع؛ يوشك أن تدخل مسجد الجماعة، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً"؛ فالله المستعان!.
إخوة العقيدة: ما هي حالنا اليوم مع هذه الفريضة العظيمة؟! أجساد تهوي إلى الأرض، وقلوب غافلة، إلا من رحم الله! فهل من عودة صادقة -أيها المسلمون- على خُطا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفريضة العظيمة وغيرها من فرائض الإسلام؟! نرجو ذلك وما هو على الله بعزيز!. ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيةفاتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حاضرة خاشعة. وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الناصح الأمين، سيد الأولين والآخرين. بلغ العلى بكماله كشف الدجى بجماله صلوا عليه وآله عظمت جميع خصاله
كما أمر الله رب العالمين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
|
|||||||||
0 التعليقات:
إرسال تعليق