روح الصلاة ولبها (3)
الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلاً، وهدى من شاء من خلقه، فاتخذ ذلك عِبرة، وابتغى إلى نجاته سبيلاً، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أبلغ الخلق بيانًا، وأصدقهم قيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليمًا. أما بعد: فإتباعًا لما بدأنا الحديث عنه من أسباب الخشوع في الصلاة؛ إذ ذكرنا أن أعظم أسباب الخشوع في الصلاة هو تذكر عظمة من يقف المصلي بين يديه، وفي هذه الخطبة نتكلم عن السبب التالي الجالب للخشوع، وهو الاستعداد المبكر للصلاة، والتهيُّؤ لها قبل الأذان، وأداؤها مع المسلمين جماعة في المسجد؛ لأن جو المسجد الروحاني وما فيه من الهدوء والسكينة، لا يمكن أن يتوافر غالبًا في البيوت؛ لكثرة ما فيها من المُلهيات والمشغلات، وإن كان ينبغي للمسلم أن يهيئ بيته أو جزءًا منه للصلاة؛ لأن أغلب النوافل ينبغي أن تكون في البيوت. أخي المسلم، يَحسُن بك التبكير إلى الصلاة؛ وذلك ليتهيأ قلبك للوقوف أمام الله - عز وجل - يَحسُن بك أن تأتي إلى الصلاة مبكرًا، وتقرأ ما تيسَّر من القرآن بتدبُّر وخشوعٍ؛ لأن ذلك أدعى للخشوع، يقول - عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستَهموا، ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه...) الحديث. فرق بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لَغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله؛ لما قرأه من كلام الله - عز وجل - فلا شك أن حال الثاني مع الله أفضل من الأول بكثير. إن الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها يحصل ذلك بأمور؛ منها: الترديد مع المؤذن، والإتيان بالدعاء المشروع بعده، والدعاء بين الأذان والإقامة، وإحسان الوضوء والتسمية قبله، والذكر والدعاء بعده، والاعتناء بالسواك وأخذ الزينة باللباس الحسَن النظيف، والتبكير والمشي إلى المسجد بسكينة ووقارٍ، وانتظار الصلاة، وكذلك تسوية الصفوف والتراص فيها. عبد الله، احرص على تكبيرة الإحرام؛ ففي الحديث الذي صححه الألباني - يرحمه الله - قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يومًا، كُتِبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار. سُئل العلامة الشيخ عبدالله بن جبرين: متى يُدرك المصلي تكبيرة الإحرام؟ فأجاب: يرى بعض العلماء أن من أدرك الإمام في الركعة الأولى قبل ركوعه، فقد أدرك التحريمة، وحصل على فضلها، ويرى بعضهم أنه لا يدركها إلا إذا أدركها بعد تكبيرة الإمام مباشرة، ولعل الأقرب أن من كبَّر قبل أن يَشرَع الإمام في القراءة، يكون مُدرِكًا لها، فإن أتى بعد شروع الإمام في القراءة جهرية، أو سرية، فقد فاتته التحريمة. عبد الله، هذا سعيد بن المسيب - يرحمه الله - يقول: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة، وما أذَّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وكان محمد بن سماعة التميمي - يرحمه الله - يقول: مكثت أربعين سنة لم تَفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي، فصلَّيت خمسًا وعشرين صلاة أُريد التضعيف، بل اشتَهر أمر رجل جاوز التسعين من عمره من أهل القصيم في زمننا، لا يزال حيًّا، أطال الله في عمره على طاعته، لم يزل مؤذنًا منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم يعرف عنه أن فاتتْه تكبيرة الإحرام لسنين طويلة، ولما سأل ابنه قال: لم تقع عيني على والدي ولا مرة واحدة وهو يقضي شيئًا من صلاة فاتته، وأنا قد جاوزت الأربعين عامًا، إذًا: فلا تَحقِر نفسك عن مشابهة أولئك الأخيار. فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاحُ أخي السعيد، استصحِب معك أثناء قيامك للصلاة الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من امرئ مسلم تحضُره صلاة مكتوبة، فيُحسن وضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفار لما قبلها من الذنوب، ما لم تُؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله). فإنك إن استصحَبتَ هذا الحديث وأمثاله، وسبَّقت ذلك بالاستعاذة من توهين الشيطان الرجيم، والاستقواء بعون القوي العظيم - علَت هِمَّتك، وقوِيَت عزيمتك، وسمَت نظرتك، وتهيَّأت جوارحك، وتحرَّكت مفاصلك، جعلني الله وإياك من أهل الصف الأول، إنه هو المستعان وعليه المعول.
الخطبة الثانيةليَحسُن بنا أن ندعو بما دعا به إبراهيم الخليل، وهو منطرح بين يدي ربه الجليل: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذُريتي. ثم لنصلي ونسلِّم - رحمكم الله - على خير مَن أقام الصلاة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، واللواء المعقود، كما أمركم بذلك الرب المعبود، فقال تعالى قولاً كريمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
يا ربِّ صلِّ على
النبي وآلهِ
ما كوكبٌ في الجو قابَلَ كوكبَا
يا ربِّ صلِّ على الذي أدنيتَه
منْ قابَ قوسينِ الجَنابَ الأقْربَا
باللهِ يا مُتلذِّذينَ بذِكرهِ
صلُّوا عليهِ فما أحقَّ وأوْجَبا
صلُّوا على المختارِ فهْوَ شفيعكمْ
في يومِ يُبْعثُ كلُّ طفلٍ أشْيَبَا
صلَّى وسلمَ ذو الجلالِ عليكَ ما
أزكاكَ في الرُّسلِ الكِرامِ وأطْيَبَا
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق