الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ آل عمران 102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء1.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
الأحزاب70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد ضيعت هذه الأمة فيمن ضيعت، وفيما ضيعت حفظ سير السلف، والتعرف على رجالاتها في القرون الماضية، يوم أن التفتنا إلى أسماء اللاهين واللاعبين، وسير العابثين والفاسقين، ضيعنا من ضمن ما ضيعنا سير الأجداد المصلحين، والآباء الفاتحين، والعلماء العاملين.
أيها المسلمون: إن ديناً في رقابنا أن نتعرف على سير أسلافنا، وخصوصاً رجال خير القرون الذين مضوا وخلفوا سيراً وعبراً، إن سير أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة،
إن ديناً في رقابنا أن نتعرف على سير أسلافنا، وخصوصاً رجال خير القرون الذين مضوا وخلفوا سيراً وعبراً، إن سير أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة،
وسائر الفوائد التي تنبع من دراسة سير أولئكم الأفذاذ، ونحن مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة عَلَم بحق، كان رأساً في العلم، ورأساً في الزهد ورأساً في الورع، ورأساً في إنكار المنكر، ورأساً في الجهر بالحق، ورأساً في العبادة، ورأساً في الحفظ، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وقل من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً ولا تسمع عنه عندهم حساً وخبراً.
إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري -رحمه الله تعالى-، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق ، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، وطلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان لـسفيان:" يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي". تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم، وقالت له مرة: "يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك؟ فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك" من هذا البيت خرج هذا الرجل.
والتربية التربية -يا عباد الله- النشء يخرج هكذا. أفنى عمره في طلب العلم، وطلب الحديث، وقالرحمه الله-: "لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس أي: يذهب ويندثر تدريجياً فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية. وقال: أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة".
وقال: "ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه". وكان -رحمه الله تعالى- يقول: "لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا"، وقال: "لو لم يأتني أصحاب الحديث ليسمعوا ويكتبوا لأتيتهم في بيوتهم"، وبلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعن المبارك بن سعيد قال: "رأيت عاصم بن أبي النجود وكان شيخاً جليلاً يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: يا سفيان ! أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً"، أتيتنا صغيراً تطلب العلم عندنا، فتفوقت علينا فجئناك وأنت كبير، وكان يكتب ويتعلم حتى آخر عمره، يشتغل بطلب العلم." دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث أعجبه، وضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحاً فكتبه، كتب الحديث وهو على فراش الموت، فقالوا له: على هذه الحال منك! فقال: إنه حسن! إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً".
رحل إلى مكة والمدينة ، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس ، ورحل إلى اليمن للقاء معمر، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب، كان نابغة بحق، عن الوليد بن مسلم قال: "رأيت سفيان الثوري بـمكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد"، وعن أبي المثنى قال: "سمعت الناس بـمرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري ، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه". يعني نبت شعره من قريب، كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه. وقال محمد بن عبيد الطنافسي: "لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم"، ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله:
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّامريم:12.
كان حافظة عجيباً في حفظه، كان ذا حافظة عجيبة فيها، قال سفيان عن نفسه: "ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني"، وكانوا يقدمونه في الحفظ على مالك وعلى شعبة، وقال يحيى القطان : "ليس أحد أحب إليَّ من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإن خالفه سفيان أخذت بقول سفيان"، خالفه في نحو من خمسين موضعاً في حفظ الأحاديث، كان الحق فيها مع سفيان.
كان ليله يُقسم بالنصف: نصف لقراءة القرآن وقيام الليل، وجزء لقراءة الحديث وحفظه، وكان حفظه يبلغ نحواً من ثلاثين ألفاً، وقال ابن عيينة: "ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري". وقال شعيب بن حرب: "إني لأحسب أن يُجاء غداً بـسفيان حجة من الله على خلقه يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد أدركتم سفيان". وقال أبو بكر بن عياش:"إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم في عيني". كانت مرافقة الرجل له شرف، وقال عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله-: "كنا نكون عند سفيان فكأنه قد أوقف للحساب من خشيته لله، فلا نجترئ أن نكلمه وهو في تلك الحال من الخشية، فنعرض بذكر الحديث، ونذكر في الكلام بيننا شيئاً عن الحديث، فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو حدثنا وحدثنا، ويبدأ بالتحديث".
وكان يطلب سماع الحديث وهو مستخف لما هرب واضطر للاختفاء، وكان وهو مستخف يطلب العلم، قال سليمان بن المثنى: "قدم علينا سفيان الثوري، فأرسل إليَّ: إنه بلغني عنك أحاديث وأنا على ما ترى من الحال، فائتني إن خف عليك، قال: فأتيته فسمع مني، وفعل ذلك بعدد من أصحابي"، وقال ابن المبارك عن سفيان : "كنت أقعد إلى سفيان الثوري فيحدث، فأقول: ما بقي شيء من علمه إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: "هذا في عمله بعلمه ما بلغني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة". كان يحس بالمسئولية، ويخشى أن يقابل الله فيسأله عن كل حديث حفظه: لأي شيء حفظته؟ وهل عملت به؟ رحمه الله تعالى.
ومع علمه كان ورعاً في الفتوى لا يتسرع في الإجابة، قال مروان بن معاوية: "شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج" أي: أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له، وقال ابن أسباط: "سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي" فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء.
وكان له دقة عجيبة في الاستنباط والفقه، فعن الفريابي قال: "رأينا سفيان الثوري بـالكوفة ، وكنا جماعة من أهل الحديث، فنزل في دار، فلما حضرت صلاة الظهر دلونا دلواً من بئر في الدار، فإذا الماء متغير متغير بشيء من النجاسة فقال: ما بال مائكم هذا؟ قلنا: هو كذا منذ نزلنا هذه الدار، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي قبلكم، فإذا ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من بئر الدار التي شرقيكم، فإذا ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من بئر الماء التي غربيكم، فدلوا دلوا فإذا هو ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي شأمكم، فدلوا دلواً فإذا هو ماء أبيض، فقال: إن لبئركم هذه شأناً، كل ما حولها من الآبار نظيفة إلا هذ الذي أنتم فيها، فحفرنا فأصبنا عرق كنيف ينزل فيها عرق من مرحاض إلى هذه البئر تنزل النجاسة في البئر فقال: منذ كم نزلتم هذه الدار؟ فقلنا: أربع سنين، فأمر بإعادة صلاة أربع سنين".
وكان -رحمه الله تعالى- حكيماً في تعليمه، وكان يقول: "إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي؛ لأن بعضهم في تلك البلد كانوا يشتمون علياً، وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر"؛ لأن بعض المتشيعين في الكوفة كان يقع في أبي بكر وعمر. وقال ابن المبارك رحمه الله: "تعجبني مجالس سفيان الثوري ، كنت إذا شئت رأيته في الحديث، وإذا شئت رأيته في الفروع، وإذا شئت رأيته مصلياً، وإذا شئت رأيته غائصاً في الفقه".
وكانت عبادته عظيمة -رحمة الله عليه- قال يوسف بن أسباط: "قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، فبقي مفكراً، ونمت ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع! قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى هذه الساعة".
وكان عجيباً في قيامه لليل، يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل؛ حتى يعود الدم إلى رأسه، وإذا أكل اجتهد في القيام بزيادة، أكل مرة طعاماً ولحماً ثم تمراً وزبداً، ثم قال: "أحسن إلى الزنجي يعني العبد أحسن إلى الزنجي وكده". ومرة قدم على عبد الرزاق، فقال عبد الرزاق: "طبخت له قدر سكباج لحم مع خل فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق ! اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح".
وقال علي بن الفضيل: "رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أسابيع سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه"، وقال ابن وهب: "رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء".
وكانت خشيته لله أبلغ من أن توصف، قال قبيصة: "ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه".
وقال يوسف بن أسباط: "كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من خشيته لله -عز وجل-". وقال سفيان: "البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير".
وكان زاهداً أقبلت عليه الدنيا فتركها، وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس، ولا يمد يده.
من وصاياه، وإنكاره للمنكر.
وكان له وصايا في الزهد، فكان يقول: "ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت".
وكان يوصي من يخرج في سفر ألا يخرج مع من هو أغنى منه، فيكون إن ساويته بالنفقة أضر بك، إذا أنفقت مثله وهو أغنى منك أضر بك، وإن أنفقت أقل منه ظهرت كأنك بخيل، فاخرج مع من هو مثلك.
وأما إنكاره للمنكر فكان شائعاً كثيراً، قال شجاع بن الوليد: "كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً".
كان استشعاره لمسئولية إنكار المنكر عظيمة، وخصوصاً الشيء الذي لا يستطيع تغييره، فعن سفيان قال: "إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول الدم"، وعن ابن مهدي قال: "كنا مع الثوري جلوساً بـمكة ، فوثب وقال: النهار يعمل عمله قوموا نعمل"، الجلوس إذا كان مضيعة للوقت لا خير فيه.
وتواضعه كان عجيباً، وإزراؤه على نفسه كان كثيراً، قال ابن مهدي: "بات
سفيانعندي فجعل يبكي فقيل له في سبب بكائه، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا ورفع شيئاً من الأرض قال إن أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت"! كان يخشى الله -عز وجل- في علمه وعمله، هذه صور من التقوى والورع، وما خفي علينا ولم ينقل إلينا أعظم بكثير.
اللهم إنا نحبه ونشهدك على حبه، اللهم اجعلنا مما يقتفي سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلنا بها عاملين، ولها متبعين، وأمتنا عليها يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله على نعمائه، أشكره -سبحانه وتعالى- على عظيم لطفه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشه أن محمداً رسول الله صفيه من خلقه والداعي إلى سبيله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين، وعلى من سار على نهجهم واقتفى سنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله: كان هذا الرجل جريئاً في الحق، قوالاً به، ينكر المنكر، وينصح، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان، فلما دخل عليه خلع خاتمه -الخليفة يخلع خاتمه لـسفيان- فرمى به إلى سفيان، وقال: يا أبا عبد الله: هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن بالكلام يا أمير المؤمنين: قال السامع للراوي: قال له: يا أمير المؤمنين! قال: نعم. فقال الخليفة: نعم. يأذن له بالكلام. قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم. قال سفيان: لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك. قال: فغضب الخليفة وهمَّ به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال: بلى. فلما خرج سفيان حف به أصحابه، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم وخرج هارباً إلى البصرة، وكان يقول: "ليس أخاف إهانتهم، إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة"، يعني إذا أكرموني تغاضيت عن الحق ولا أرى سيئتهم سيئة.
وكان ينكر عليهم الإسراف في الولائم في مواسم الحج، فعن محمد بن يوسف الفريابي: "سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بـمنى فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم وهم يموتون جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً وكان ينزل تحت الشجر" -عمرينزل تحت الشجر- فقال الخليفة لـسفيان: "أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا. ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه. فقال: اخرج".
ولما أُدخل على المهدي بـمنى وسلم عليه بالإمرة، فقال الخليفة: أيها الرجل! طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك. قال: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً، قال عمر: أسرفنا! وإني أرى ها هنا أموراً لا تطيقها الجبال.
أما هرب سفيان، وتنقله في البلاد هارباً فترة من عمره، ودفنه لكتبه، فكان بسبب أن الخليفة أبا جعفر أراده على القضاء، فأبى أن يتولاه، فأراد أن يلزمه به، وكان يسجن ويضرب حتى يرضخ القاضي للقضاء، فهرب سفيان، ولا زال هارباً متخفياً، وهو مع هربه يطلب الحديث ويطلب العلم ويعبد الله، قال أبو أحمد الزبيري: "كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي: من جاء بـسفيان فله عشرة آلاف". وقيل: إنه لأجل الطلب والملاحقة.
هرب إلى اليمن، فاتهموه وهم لا يعرفونه في اليمن بأنه سرق شيئاً؛ فأتوا به والي اليمن معن بن زائدة ، وكان عنده خبر من الخليفة بشأن طلب سفيان، فقيل للأمير: هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ قال سفيان: ما سرقت شيئاً. فقال لهم الأمير: تنحوا حتى أسائله حتى أحقق معه ثم أقبل على سفيان فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الله بن عبد الرحمن، وأراد ألا يكذب ولا يذكر اسمه لأنه مطلوب عند الخليفة، فقال الأمير: نشدتك بالله لما انتسبت سأله بالله، فكان لا بد أن يجيب، قال: فقلت: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري ؟ فقلت: الثوري، قال: أنت بغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجل! فأطرق ساعة يفكر ثم قال: ما شئت أقم ومتى شئت فارحل، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها. يعني أحميك وأدافع عنك، وكان معن بن زائدة فيه خير كثير.
وهرب إلى البصرة أيضاً، فقال ابن مهدي: قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان، فأجر نفسه لحفظ الثمار، صار ناقوراً حارساً يحفظ الثمار، فمر به بعض العشارين الذين يأخذون أجزاء الثمار للوالي، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة . فقال: أرطب البصرة أحلى من رطب الكوفة؟ قال: لم أذق رطب البصرة. قال: ما أكذبك! البر والفاجر والكلاب يأكلون الرطب الساعة، ورجع إلى العامل فأخبره ليعجبه يعني بهذا الخبر العجيب للوالي، فقال الوالي: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري، فخذه لنتقرب به إلى أمير المؤمنين. فرجع في طلبه فما قدر عليه. ولاحقه أبو جعفر ملاحقة شديدة وجدَّ في طلبه، فاختفى الثوري بـمكة عند بعض المحدثين قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم الثوري فاصلبوه، فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي عليه ورأسه في حجر الفضيل مختفٍ ببيت، ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فقيل له: يا أبا عبد الله ! اتق الله لا تشمت بنا الأعداء.. كان مختفياً في الحرم ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فتقدم إلى الأستار ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأخبر سفيان فما قال شيئاً، قال الذهبي رحمه الله: هذه كرامة ثابتة.
واستمر هذا الرجل على العطاء، وكان قد دفن كتبه فلما أمن استخرجها مع صاحب له، فقال صاحبه: في الركاز الخمس يا أبا عبد الله ! فقال: انتق منها ما شئت، فانتقيت منها أجزاء فحدثني بها.
وفاته وثناء العلماء عليه.
استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل، ووافاه القدر، قدر الله -سبحانه وتعالى- بالموت في البصرة، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني
استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل، ووافاه القدر، قدر الله -سبحانه وتعالى- بالموت في البصرة، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني.
، وقال يزيد بن إبراهيم: "رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين يعني في الحديث".
ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: مات سفيان بـالبصرة ودفن ليلاً ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:
إذا بكيت على ميت لمكرمة*** فابك غداة على الثوري سفيان
وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:
أبكي عليه وقد ولى وسؤدده*** وفضله ناظر كالغسل ريان"
وقال سعيد: "رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده". وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته، وقال إبراهيم بن أعين: "رأيت سفيان بن سعيد بعد موته رأيته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة"، قال أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت"، هذا من ثناء العلماء عليه.
وقال أيضاً الأوزاعي: "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري".
وقال ابن المبارك : "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان". وقال ابن أبي ذئب: "ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري". وقال ابن المبارك: "ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته -دون الوصف- إلا سفيان الثوري -رحمه الله رحمة واسعة-".
هذا من الرجالات الذين أنجبتهم هذه الأمة، وصاغهم هذا الدين، فكم نحن بحاجة أن نلتزم خطاهم، وأن نسير على نهجهم، وأن نتمثل سيرهم، كم نحن بحاجة إلى استعادة سير أسلافنا الماضين؛ لنكون في العز كما كانوا أو نحاول، ونحن نعلم أننا لن نكون مثلما كانوا، لكن على الأقل لا يصلح- أيها المسلمون- أن تبقى سير العلماء مدفونة، وأن يبقى أولئك الأجلاء الأعلام غير معروفين عند متأخري هذه الأمة، هذه جريمة لا تغتفر، فإن هؤلاء الصالحين قدوة يجب الكلام في سيرهم، ونشر نهجهم وحياتهم؛ حتى تعرف هذه الأمة الامتداد الحقيقي لها، وتعرف هذه الأمة أن لها سابقين، وتعرف هذه الأمة أنها متى قامت بالحق وعدلت بوأها الله المكانة التي ينبغي أن تكون عليها.
اللهم ارحم سفيان واجزه الجزاء الأوفى، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا أجمعين، وأن تغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين. اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفرج همومنا، ونفس عنا كروبنا.. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذه الليلة من عتقائك من النار، وفي هذا اليوم العظيم من الفائزين بالجنة يا رب العالمين. الله إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتقر أعيننا فيه بنشر الإسلام والسنة يا رب العالمين. اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن ترفع الذل عن المسلمين يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
النحل:90فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
0 التعليقات:
إرسال تعليق